هل رأى النبي ربه ليلة الإسراء والمعراج ؟ بحث تفصيلي


  
كنت قد أعددت بحثا تفصيليا في بعض قضايا الإسراء والمعراج لكني آثرت أن أعرضه كاجزاء منفصلة ليجد كل باحث عن قضية من قضايا الإسراء والمعراج غاية ما يبحث عنه
 وهنا سنتعرض للجزء الثاني من مبحثنا في الإسراء 
 
والمتعلق برؤية رسول الله لربه ليلة المعراج وفيها أربعة أقوال : 
 
 الأول : هو قول الوقف في هذه المسألة وعدم الخوض فيها لا بإثبات ولا بنفي، كما قال سعيد بن جبير "لا أقول رآه ، و لا لم يره " كذا رجح القرطبي في " المفهم " قول الوقف في هذه المسألة، وعزاه لجماعة من المحققين، وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل، ثم قال " وليست المسألة من العمليات فيكتفي بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات فلا يكفي فيها إلا بالدليل القطعي "

القول الثاني : من أثبت الرؤية ، قال ابن عباس و عكرمة رآه بقلبه ، وروى مسلم عن ابن عباس أنه قَالَ " رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ " (12) وفي رواية أنه قَالَ رَآهُ بِقَلْبِهِ (13)
وروى الترمذي وحسنه عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ. قُلْتُ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ) قَالَ وَيْحَكَ ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ وَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ (14)
وقال الإمام أحمد بن حنبل رآه بقلبه، ولم يقل برؤيته في الدنيا
وقال علي بن إسماعيل الأشعري و جماعة من أصحابه أنه رأى الله تعالى ببصره و عيني رأسه
وقال كل آية أوتيها نبي من الأنبياء عليهم السلام فقد أتي مثلها نبينا ، و خص من بينهم بتفضيل الرؤية .
القول الثالث : نفي الرؤية وهو قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وابن مسعود وأبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهم وجماعة من الصحابة والتابعين .
فقال ابن مسعود عن قول الله تعالى [فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى] قال عنها قال رسول الله رأيت جبريل له ستمائة جناح (15) وقال أبو هريرة رضي الله عنه عن قول الله تعالى [وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى] (16) قال عنها قد رأى جبريل عليه السلام ، وقال مجاهد عنها قد رأى رسول الله جبريل في صورته مرتين ،أما أبو ذر رضي الله عنه فقد روى مسلم في صحيحه والترمذي وحسنه والإمام أحمد في مسنده واللفظ له عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ " قُلْتُ لأَبِى ذَرٍّ لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ سَأَلْتُهُ ؟ قَالَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ ؟ قُلْتُ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ فَقَالَ قَدْ سَأَلْتُهُ فَقَالَ « نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ » (17) وفي رواية مسلم « رَأَيْتُ نُورًا » (18) وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ ، حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِى رِوَايَةِ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ » (19)
أما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقد نفت رؤية رسول الله لربه عز وجل نفيا مُطلقا، ففي صحيح مسلم عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ :
يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلاَثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ مَا هُنَّ ؟
قَالَتْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ.
قَالَ وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلاَ تَعْجَلِينِي ، أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ) ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ).
فَقَالَتْ أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ :« إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ».
فَقَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ)
قَالَتْ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه ِ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ).
قَالَتْ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ
(قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ) (20)
وفي صحيح البخاري عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ فَأَيْنَ قَوْلُهُ ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) قَالَتْ ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ ، فَسَدَّ الأُفُقَ (21)
القول الرابع : ومن العلماء من ذهب إلى إمكانية الجمع بين القولين خاصة وأن الأخبار التي جاءت عن ابن عباس كثيرة بعضها مطلقة بثبوت الرؤية وبعضها مقيدة على الرؤية بالقلب، فذهب البعض إلى التوفيق بين ما قالته عائشة وما قاله ابن عباس من أن نفي عائشة للرؤية أي بالبصر وإثبات ابن عباس للرؤية أي بالقلب أي أن قول الله تعالى " لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ " حاصله أن المراد بالآية نفي الإحاطة به عند رؤياه، لا نفي أصل رؤياه
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: يمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة رضي الله عنهم بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب. (22)
ومن هذا أيضا ما رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس قال " قد رأى محمد ربه " قال أبو حاتم معنى قول ابن عباس قد رأى محمد ربه أراد به بقلبه في الموضع الذي لم يصعده أحد من البشر ارتفاعا في الشرف (23)
ثم روى في صحيحه عن مسروق بن الأجدع أنه سمع عائشة تقول " أعظم الفرية على الله من قال إن محمدا رأى ربه وإن محمدا كتم شيئا من الوحي وإن محمدا يعلم ما في غد قيل يا أم المؤمنين وما رآه ؟ قالت لا إنما ذلك جبريل رآه مرتين في صورته مرة ملأ الأفق ومرة سادا أفق السماء " قال أبو حاتم قد يتوهم من لم يحكم صناعة الحديث أن هذين الخبرين متضادان وليسا كذلك إذ الله جل وعلا فضل رسوله على غيره من الأنبياء حتى كان جبريل من ربه أدنى من قاب قوسين ومحمد يعلمه جبريل حينئذ فرآه بقلبه كما شاء ، وخبر عائشة وتأويلها أنه لا يدركه تريد به في النوم ولا في اليقظة، وقوله لا تدركه الأبصار فإنما معناه لا تدركه الأبصار يرى في القيامة ولا تدركه الأبصار إذا رأته لأن الإدراك هو الإحاطة والرؤية هي النظر والله يرى ولا يدرك كنهه لأن الإدراك يقع على المخلوقين والنظر يكون من العبد لربه وخبر عائشة أنه لا تدركه الأبصار فإنما معناه لا تدركه الأبصار في الدنيا وفي الآخرة إلا من يتفضل عليه من عباده بأن يجعل أهلا لذلك واسم الدنيا قد يقع على الأرضين والسماوات وما بينهما لأن هذه الأشياء بدايات خلقها الله جل وعلا لتكتسب فيها الطاعات للآخرة التي بعد هذه البداية فالنبي رأى ربه في الموضع الذي لا يطلق عليه اسم الدنيا لأنه كان منه أدنى من قاب قوسين حتى يكون خبر عائشة أنه لم يره في الدنيا من غير أن يكون بين الخبرين تضاد أو تهاتر (24)
وروى أيضا عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال " قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله لسألته عن كل شيء ، فقال عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال كنت أسأله هل رأيت ربك ؟ فقال سألته فقال " رأيت نورا " قال أبو حاتم معناه أنه لم ير ربه ولكن رأى نورا علويا من الأنوار المخلوقة" (25) والله أعلم أي ذلك كان .
هذه هي جُملة أقوال العُلماء في هذه المسألة ولكل منهم دليله الذي يحتج به، إلا أن القول بأن رسول الله لم ير ربه ليلة الإسراء ـ هو عندي ـ الأظهر والأقوى حجة، وهو القول المرفوع للنبي بحديث صحيح كما رواه مسلم عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها، وقول ابن عباس لم يثبت بحديث مرفوع عن النبي وهو رغم علمه ـ رضي الله عنه ـ فقد تناول هذه المسألة بالظن والاجتهاد ولو كان معه شيء مرفوع إلى النبي لذكره ولقطع الخلاف.
كما أن الأصل هو عدم ثبوت الرؤية فلم يخبرنا الله تعالى بثبوت رؤيته من نبي مرسل أو ملك مُقرب فالقول بثبوتها لا يستند إلى دليل قاطع، أما القول بأن ابن عباس أثبت شيئاً نفاه غيره والمثبت مقدم على النافي فهذا إنما يكون صحيحاً إذا ذكر المثبت دليلاً على إثباته، فلا بد للمثبت أن يورد دليل الإثبات، ومُثبتوا الرؤية لم يقدموا أدلة بينة على ذلك، والنفي هو الأصل، حتى يقوم دليل الإثبات، وإذ لا دليل فكلام النافي هو المقدم، والنفي لا يحتاج إلى دليل، وقد عضدت عائشة رضي الله عنها مذهبها في النفي ببعض الآيات التي ظنت أنها تشهد لها. (26)
كما أن هذا القول يُسانده ظاهر اللفظ القرآني [لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى](27) وقال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] (28)
فإن الله عز وجل قد أقر برؤية رسوله لآيات عظيمة سواء في الإسراء أو في المعراج، ولم يخبرنا الله عز وجل برؤية رسوله لذاته عز وجل وذلك كان أدعى إلى الذكر،فرؤية الله عز وجل تفوق مجموع ما رأى رسول الله من الآيات في الأرض والسماء، فعدم ذكرها دليل على عدم وقوعها، كما أن رسول الله لم يحدث الناس عن رؤيته لله عز وجل ليلة الإسراء في الوقت الذي جاءت فيه أحاديث كثيرة صحيحة تشرح تفاصيل هذه الرحلة وما شاهده رسول الله من آيات ربه فيها، ففي صحيح البخاري عن ابْنَ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما – أن النَّبيِّ قَالَ
« رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى رَجُلاً آدَمَ طُوَالاً جَعْدًا، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلاً مَرْبُوعًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطَ الرَّأْسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ »(29)
وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « عُرِضَ عَلَىَّ الأَنْبِيَاءُ فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ - يَعْنِى نَفْسَهُ - وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ » (30)
وفي السلسلة الصحيحة أن رسول الله قال " رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون " (31) وأحاديث كثيرة تصف آيات عجيبة قد رآها رسول الله في هذه الرحلة قد تحدث عنها رسول الله مرارا لأصحابه، فتُرى أيهما كان أدعى إلى الذكر، رؤية الله عز وجل والتي لم تثبت بحديث صحيح، أم ما دونها من الآيات والتي ثبتت في كثير من الأحاديث الصحيحة ؟؟
كذلك في صحيح مُسلم عن أبي موسى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ ـ منها « حِجَابُهُ النُّورُ- وَفِى رِوَايَةِ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ » (32) ولا ينفي أحد بشرية رسول الله وأن طابعه البشري لم يُعد في الدنيا لرؤية الله تعالى فالفاني لا يرى الباقي كما قال مالك بن أنس رحمه الله وهو يبين أن مقدرة البشر لا تقوى على رؤية الله عز وجل لأنها لم تعد للرؤيا في الدنيا فقال " لم يُر في الدنيا ، لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصاراً باقية رئي الباقي بالباقي "
ويؤيد هذا أيضا قول النبي وهو يخبر عن فتنة الدجال " وأنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " (33) فظاهر نفي الرؤية أنه لانتقاص طابعهم البشري عن إمكانية رؤية الله عز وجل ويقبل أن يدخل المُحدث وهو الرسول ضمنهم .
أما عن قول الله تعالى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (34) والتي يستند إليها من ذهب إلى ثبوت الرؤية فإن هذا القول لا يتوافق وسياق الآيات، فإن الآيات التي تسبقها تتحدث عن رؤية رسول الله لجبريل على صورته الحقيقية التي خُلق عليها، ثم قال تعالى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) أي أن رسول الله قد استشعر قلبه بصدق ما رأت عينيه رغم أنه أمر لم تألفه، ومن طباع البشر عندما ترى أعينهم ما لم تألف رؤيته ويبهر العقل تتوهم أنه خيال أو حلم، أما رؤية رسول الله لجبريل عليه السلام على صورته التي خُلق عليها في أول الوحي ثم عند سدرة المنتهى فقد رأت العين وصدق القلب الرؤيا على أنها عين يقين .
قال ابن القيم في الزاد " وأما قول ابن عباس أنه رآه بفؤاده مرتين فإن كان استناده إلى قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ثم قال {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} والظاهر أنه مستنده فقد صح عن النبي أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين في صورته التي خلق عليها . (35)
كما روى الترمذي وصححه والإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود أنه قال ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) قَالَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ جِبْرِيلَ فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ قَدْ مَلأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ (36)
أما عن قول الله تعالى ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)فقال فيها أهل العلم عدة أقوال منها: أن الذي دنا هو جبريل عليه السلام دنا من محمد فتدلى أي تقرب منه، وقيل هو على التقديم والتأخير ، فكان قاب قوسين أو أدنى من جبريل وهو على صورته التي خُلق بها، وقول الله تعالى " فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى " أي فأوحى جبريل إلى عبد الله ورسوله محمد ما أمره ربه أن يبلغه، فكان الوحي من الله عز وجل إلى رسوله بواسطة جبريل عليه السلام .
أما عن رواية شريك بن عبد الله للإسراء التي ذكرها الإمام البخاري والتي ذكر فيها دنو الجبار رب العزة من رسول الله فإن الحُفاظ قد غلطوا شريكا في روايته فعدوا عليه أكثر من عشرة أخطاء فيها، وقال الإمام مسلم عنها " إن شريك اضطرب في هذا الحديث وساء حفظه ولم يضبطه" وقال عبد الحق الإشبيلي في "الجمع بين الصحيحين" (( زاد فيه شريك زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى الإسراء جماعة من الحفاظ، فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ )) وقال الخطابي " إن الذي وقع في هذه الرواية من نسبة التدلي للجبار عز وجل مخالف لعامة السلف والعلماء وأهل التفسير، ومن تقدم منهم ومن تأخر " (37)
أما قول الله عز وجل [وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ] (38) فتأول البعض طلب موسى عليه السلام للرؤية بإمكانيتها في الدنيا وإلا ما كان ليطلبها موسى عليه السلام وقد جاء طلبه بعد بعثته، وهذا تأويل فيه نظر، فسياق الآيات يُشير إلى أن موسى عليه السلام أراد أن يختصه ربه بالكلام والرؤية معا، فتكون ميزة ينفرد بها عليه السلام، غير معنية بإحاطة علم موسى عليه السلام بإمكانية الرؤية من عدمها، فجاء الجواب من الله سبحانه مسبقا باستحالة الرؤية لذاته سُبحانه " لَنْ تَرَانِي " ثم قرنها بالدليل العقلي فجاء كمثال عملي أمام موسى عليه السلام ليبين له ضعف تركيبه البشري على تحمل رؤية الله عز وجل ،فلما لم يقو على الرؤية أيقن أنه سأل أمر عظيم لم يهيأ له طابعه البشري وإن كان رسول مُقرب لذا لما أفاق قال (سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) ومثل هذا قصة العزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه [قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا] فبقاؤه مائة عام خبر يقيني ذكره الله مُسبقا ثم دعمه الله عز وجل بالدليل العقلي ليكون أبلغ في الإثبات بأن ينظر إلى ما حوله ليتضح له صحة القول، فقيد الله الزمان في حق الطعام فلم يتغير ثم سيره في حق الحمار فسار رفاتا فأيقن عزير أنها آية أطلعه الله عليه فقال [أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ] (39) والله أعلم
ومما سبق يتبين أن القول بثبوت رؤية رسول الله لربه عز وجل ليلة الإسراء قول لم يستند إلى دليل قاطع أو حديث مرفوع إلى النبي وإنما هو اجتهاد وتأويل للآيات، ولعل قول مالك بن أنس رحمه حجة قوية على من أثبت الرؤية بغير دليل قاطع فقال رحمه الله " لم ير في الدنيا، لأنه باق، و لا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة و رزقوا أبصاراً باقية رئي الباقي بالباقي .
وقال بعض السلف و المتأخرين ما معناه " إن رؤيته تعالى في الدنيا غير ممكنة لضعف تركيب أهل الدنيا،
و قواهم، وكونها متغيرة عرضاً للآفات والفناء ، فلم تكن لهم قوة على الرؤية ، فإذا كان في الآخرة و ركبوا تركيباً آخر ، و رزقوا قوى ثابتة باقية ، و أتم أنوار أبصارهم و قلوبهم قووا بها على الرؤية .
لذا كانت الرؤيا في الآخرة هبة من الله للمؤمنين وسوف يحرم منها الكفار، وهي ثابتة في القرآن الكريم قال تعالى [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ](40)
وقال تعالى [كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ] (41)
قال الشافعي رحمه الله ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل
والله أعلم
أسامة عبد العظيم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


(12)مسلم 455 (13)مسلم454

(14)سنن الترمذي3590 وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ

(15)البخاري3232 والآية {النَّجم:9} (16) {النَّجم:13} (17)مسلم 461 والترمذي3593ومسند أحمد 22000

(17)مسلم462 ومراد أبي ذر بذكره النور، أي النور حال بين رؤيته له ببصر

(19)مسلم 463وسنن ابن ماجة 200ومسند أحمد20160 وسبحات أي نوره تعالى وجلاله وبهاؤه

(20)مسلم457 (21)البخاري3235

(22)اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية - (ج 1 / ص 7) (23) صحيح ابن حبان 57

(24) صحيح ابن حبان60 (25)صحيح ابن حبان58

(26)اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية - (ج 1 / ص 6)

(27){النَّجم:18} (28)(الإسراء:1)

(29)البخاري 3239

(30) مسلم441 (31)السلسلة الصحيحة 1\585حديث291

(32) مسلم 463وسنن ابن ماجة 200ومسند أحمد20160 وسبحات أي نوره تعالى وجلاله وبهاؤه

(33) (النجم:11) (34)صحيح وضعيف الجامع الصغير 2459وقال الألباني صحيح

(35) زاد المعاد 3/38

(36) سنن الترمذي 3594 وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ومسند أحمد3813

(37)رواية شريك بن عبد الله في صحيح البخاري كتاب التوحيد حديث7517، وقول مُسلم رواه ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء وقول عبد الحق والخطابي ذكره الحافظ في الفتح

(38){الأعراف:143} (39){البقرة:259}

(40){القيامة22/23} (41){المطَّففين:15}

وهذا كتاب مميز نرشحه لك

اضغط هنا لتحميل الكتاب
تعليقات فيس بوك
0 تعليقات جوجل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تواصل معنا !

للتواصل أو الإستفسار معنا يرجى مراسلتنا من خلال نموذج المراسلة أسفله !


مكتبة تجديد هي مكتبة مجانية وكل ما عليها هي كتب متاحة للنشر

صاحب الموقع شاب عربي يأمل في أن يقدم لك يد العون قدر استطاعته

انضم لصفحتنا

جميع الحقوق محفوضة لـ مكتبة تجديد للكتب
نسعد بتواصلك : ussamaelmasry@gmail.com