رجال ليسوا كباقي الرجال - قصة حقيقية



قصة أسوقها عليكم ليست من نسج الخيال إنما من واقع الحياة 
بينما نحن جلوس في ساحة الحرم المكي، ننتظر الآذان، لنروي ظمأ يوم طويل، إذ بمن يجاورني يتأمل في وجوه من حوله، وكأنه ينشد ضالة له،
حركت تلك النظرات الشاردة شيء في نفسي فسألته ـ متوددا ـ عن حاله، فإذا به بركان من الألم يأمل في أن يجد له منفثا، وسرعان ما أبديته كل اهتمامي عليّ أن أرفع عنه شيئا مما ألمّ به من نظرات الحسرة والألم، فإذ بي أجد صاحبي وقد فقد كل ما يملك وهو يطوف بالكعبة!!
إنه لم يتألم لفقد ماله أو أوراق هويته، وإنما يتألم حسرة على قلوب غفلت عن هيبة المكان والزمان فتجردت من كل صفة أخلاقية فضلا عن كل قيمة إسلامية.....
حاولت عابسا أن أخفف عنه ما ألمّ به، مرغبا إياه فيما ينتظره بالغد القادم، فلا يفصلنا عن عرفات سوى ليل تنطوي صفحاته ويبدأ الفجر بأمل جديد
إلا أن كلماتي لم تغير في حالته شيئا
مرت الدقائق بنا وكأنها ساعات طوال، حتى انطلق المؤذن يعلنها عالية تلك الرسالة الخالدة، رسالة التوحيد، فتناولنا جرعة من ماء وبضع حبات من التمر ، ثم ما لبثت أن تركت صاحبي في حالته تلك لأشرد في خيالي
فصاحبي لم يعد يملك من حطام الدنيا شيئا، وهو يستقبل مناسك الحج وماذا عن مصاريف إقامته وسفره؟!
فسرعان ما طوت ذاكرتي أربعة عشر قرنا من الزمان لأذكر حادثة ربما ضنت الحياة بمثلها الآن
تلك التي دارت أحداثها على أرض المدينة النبوية بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع رضي الله عنهما بعد مقدم ابن عوف مهاجرا لا يملك من حطام الدنيا شيئا
فإذ بالأنصاري يعرض عليه نصف ماله وأن يطلق إحدى زوجاته فإذا انقضت عدتها تزوجها المهاجري
فلم يكن المهاجري بأقل نبلا من الأنصاري فدعا لأخيه بالبركة وسعة الرزق ولم يزد عن السؤال عن السوق ليبتاع ويشتري فيه
ربما في لحظات عابرة هامت الأفكار تصارعني
بماذا ارتقت تلك الأنفس الطاهرة لتصل إلى هذا القدر من الإيثار، إن صاحبي الذي يجاورني في كرب قلما أن يتكرر مع إنسان، فهلا تمثلت بهؤلاء الرجال، الأنصاري وصاحبه؟!
لا أنكر قدر الصراع الذي دار بداخلي في تلك اللحظات.
صراع يطالبني بأن أتشبه بهؤلاء الرجال ولو مرة في حياتي
وآخر يطالبني بقليل من الإيثار تحكمه إمكاناتي المحدودة
لن أنسى تلك اللحظات أبدا
لحظات تقف فيها في مفاصلة حقيقة بين ما تعتقد وما تفعل
لحظات تشعر وكأنك على أعتاب حياة جديدة
بل قل عقلية جديدة بإيمان له طعم فريد
وما أن أقيمت الصلاة حتى حسمت الأمر بداخلي بأن أتشبه بهؤلاء الرجال وإن لم أكن مثلهم
قضينا الصلاة وأخذت صاحبي لنتناول وجبة الإفطار وكلي عزيمة في أن أشاطره نصف ما أملك رغم أن كل ما أملك في حينها لا يكفي مصاريف سفره دون نفقاته
لا أنكر قدر الإحساس بالرقي في تعاملي وفي عقيدتي وقد تملكني ذاك الشعور بالإيثار الفعلي لا القولي
إحساس يجردك من تلك القيم البالية التي عنوانها الحرص والجود بما يزيد عن حاجتك إن وجد
لا أن تجود بما يعز عليك الجود به[لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ] {آل عمران:92}
إحساس ينقلك كليا من واقع غدت القيم فيه عبثا، والمشاعر فيه أوهاما، والتقاليد الفاسدة فيه أعراف راسخة
إحساس ينتشلك من نفسية متدنية إلى نفسية تعانق في همتها الجبال الراسيات بل إن شئت فقل النجوم الزاهرات
هكذا كنت أشعر في حينها، ولم تمر بنا سوى دقائق معدودات وإذ بصاحبي فجأة يخبرني بأن ابنه قريب من مكة وربما إذا اتصل به تواصل معنا
شعرت في حينها أن شيئا أملكه يُسلب مني
بل عن شيء أأمل في أن أحققه أحرم منه
وكأنني في حينها من ينشد ضالته لا صاحبي !!
ومع الإصرار الذي رأيته في كلماته لم أجد بدا من التواصل مع ابنه قبل تناول الإفطار
وما أن انتهيت من رحلتي الشاقة في الوصول إلى هاتفه إذ بي أفاجأ بأن الابن يبحث عن والده بالحرم منذ ساعات!!
غمرت الفرحة صاحبي
ولم أجد بدا من اصطحابه لمقابلة ابنه
أرى في عيني صاحبي دموعا تصارعها ابتسامة خفية، تخيلت في حينها أنها دموع من فرج الله عنه كربا ألمّ به
إلا أنني كنت على موعد آخر مع مفاجآت صاحبي
لم يبك صاحبي لتفريج كربه فحسب
وإنما بكى فرحا بثمار تربيته
بكى فرحا بنتاج عمره الذي قضاه حانيا على أبنائه
نظر الابن إلى أبيه تحتضنه النظرات قبل أن تعانقه الأيدي
وإذا به قبل أن يُلقىَ في أحضان والده ينحني ليخطف يد والده ليقبلها
عجزت كلماتي حينها عن التعبير عما أشعر
وها هي الآن بعد انقضاء ثلاثة أعوام عاجزة ثانية عن التعبير
لم يعد لي بينهما مكان وقد عاد الأب إلى حضن ابنه البار
استأذنت صاحبي في الانصراف، فلم يجد سوى كلمات كأنها تمتمة يعبر بها عن شكره لي
وهو يجهل أن مثلي حق له أن يشكر مثله بعدما علمني درس من الحياة قلما يتكرر
درس عنوانه (( قدّم الخير تجد ثماره يانعة مشرقة... ))
تركت صاحبي وكلي حسرة أن حُرمت فرصة أتشبه فيها بالرجال، إلا أن المعاني السامية والمشاعر الصادقة والقيم النبيلة بقيت بداخلي حية تنبض
فها هي كلماتي أكتبها ثانية لأشكر ذاك الأب الذي علمني ما تجهل عشرات المجلدات عن تعليمي إياه
اكتبها ثانية لأشكر ذاك الابن حينما سطر للتاريخ نموذجا حيا للبر بوالد انحنى ظهره رغبة في استقامة ظهر أبنائه
اكتبها لكل أب اعتقد ـ خطأـ أن تربية الأبناء مدرسة يرسله إليها أو مصروف يمنحه إياه أو قل مستقبل أجوف يفكر في تأمينه له
فواهم من اعتقد أن هذا هو الإرث الباقي
بل إن كل تجارب الحياة أثبتت أن هذا هو الإرث الفاني
وأن القيم والمبادئ وحدها هي ما تُبقِي ثمرات تربيته خضراء نضرة......


أسامة عبد العظيم

وهذا كتاب مميز نرشحه لك

اضغط هنا لتحميل الكتاب
تعليقات فيس بوك
0 تعليقات جوجل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تواصل معنا !

للتواصل أو الإستفسار معنا يرجى مراسلتنا من خلال نموذج المراسلة أسفله !


مكتبة تجديد هي مكتبة مجانية وكل ما عليها هي كتب متاحة للنشر

صاحب الموقع شاب عربي يأمل في أن يقدم لك يد العون قدر استطاعته

انضم لصفحتنا

جميع الحقوق محفوضة لـ مكتبة تجديد للكتب
نسعد بتواصلك : ussamaelmasry@gmail.com